برزت تحركات جديدة على الساحة الدولية تُشير إلى تغييرات جيوسياسية حاسمة في علاقة الصين مع دول المنطقة. وذلك في ظل الأجواء المتوترة التي تشهدها منطقة الساحل الإفريقي، إذ قررت الصين، الدولة العملاقة في التصنيع العسكري والتي تمتلك تاريخًا طويلًا من التأثير الدبلوماسي في إفريقيا، توقيع اتفاقية تسليح وتدريب مع مالي، الدولة الواقعة في قلب غرب إفريقيا. حيث يُعتبر هذا القرار بمثابة ضربة دبلوماسية موجعة للجزائر، حليفة الصين القديمة في المنطقة.
الخلفية الدبلوماسية: العلاقات الجزائرية الصينية بين المصالح والضغوط
لعقود طويلة، كانت الجزائر تُعتبر من أقوى حلفاء الصين في شمال إفريقيا، حيث تبادلت الدولتان العلاقات التجارية والاستراتيجية بانتظام، لا سيما في مجالات الدفاع والطاقة. ومع ذلك، تبدو الرياح قد غيرت اتجاهها، مع اتخاذ بكين قرارات تُعتبر ضارة بالمصالح الجزائرية، بدءًا من عدم دعوتها لجبهة البوليساريو لحضور منتدى التعاون الإفريقي الصيني، وصولاً إلى توقيع اتفاقية عسكرية شاملة مع مالي، التي تعيش خلافات دبلوماسية مع الجزائر.
وفي حين تعتبر الجزائر مالي جارة مهمة، فإن علاقاتها معها توترت في السنوات الأخيرة، خصوصًا مع الاتهامات المتبادلة حول دعم الجماعات الانفصالية في شمال مالي، حيث تتهم السلطات المالية الجزائر بدعم الحركات المسلحة في منطقة أزواد. وبالتالي، فإن التحرك الصيني نحو مالي يُضيف بعدًا جديدًا لهذه الخلافات، خاصةً بعد أن بدأت مالي في استلام معدات عسكرية متطورة من الصين، مما يعزز قدراتها العسكرية ضد الجماعات الانفصالية، وهي خطوة تثير قلق الجزائر التي لها حدود طويلة مع مالي.
الاتفاقية العسكرية: تسليح وتدريب ونقل التكنولوجيا
وقع وزير الدفاع المالي، ساديو كامارا، على الاتفاقية العسكرية الجديدة في العاصمة الصينية بكين، وذلك خلال زيارته التي تزامنت مع مشاركة بلاده في قمة “منتدى التعاون الإفريقي الصيني” لعام 2024. وبحسب المعلومات المُعلنة من قِبل السلطات المالية، تتضمن الاتفاقية شقين أساسيين: أولهما توريد معدات عسكرية متطورة تشمل مركبات مدرعة وطائرات مسيرة عن بُعد، وثانيهما تدريب القوات المسلحة المالية ونقل التكنولوجيا الدفاعية إلى البلاد.
وما يُثير الانتباه في هذه الصفقة، هو أنها تأتي في وقت تعاني فيه مالي من حصار اقتصادي إقليمي نتيجة للعقوبات التي فرضتها “إيكواس” (المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا)، على المجلس العسكري الحاكم في باماكو. وعلى الرغم من هذه العقوبات، يبدو أن الصين استطاعت التحايل على الضغوطات الدولية والإقليمية لتقديم دعم عسكري متكامل لمالي.
وفي تصريح لافت، أكد وزير الدفاع المالي، كامارا، أن بلاده تلقت المعدات العسكرية من الصين حتى قبل دفع ثمنها، مشيرًا إلى أن الاتفاقية التي وُقعت تُعد بداية لتحالف استراتيجي طويل الأمد بين البلدين.
الصين تغير المعادلة في الساحل الإفريقي
تحركات الصين في مالي لا تأتي من فراغ، بل هي جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز نفوذها في إفريقيا، خاصة في ظل تراجع تأثير القوى التقليدية كالولايات المتحدة وفرنسا. وبالنسبة لبكين، تُعتبر مالي محطة رئيسية في خططها لزيادة نفوذها العسكري والاقتصادي في غرب إفريقيا.
فبموقعها الجغرافي الحساس، تُعتبر مالي بوابة لعدة دول في منطقة الساحل، والتي تُعاني من أزمات سياسية وأمنية مستمرة. وتأتي هذه التحركات الصينية في ظل انسحاب فرنسا التدريجي من المنطقة بعد سنوات من التدخل العسكري لمحاربة الجماعات الإرهابية. وبالتوازي مع هذا الفراغ، يبدو أن بكين تتحرك بسرعة لملء الفراغ عبر تقديم دعم عسكري للحكومات المحلية.
الجزائر والملف المالي: من حليف إلى خصم؟
لطالما كانت الجزائر تلعب دور الوسيط في الأزمات المالية، خاصة فيما يتعلق بحل النزاعات في شمال البلاد بين الحكومة المالية والجماعات الطوارقية المسلحة. إلا أن التطورات الأخيرة تُشير إلى أن الجزائر قد فقدت بعض نفوذها التقليدي في مالي، في ظل الاتهامات الموجهة إليها بدعم الجماعات الانفصالية.
ومع توقيع الاتفاقية الصينية-المالية، تجد الجزائر نفسها في موقف حرج. فمن جهة، تشعر بالتهديد من تنامي قدرات مالي العسكرية بالقرب من حدودها، ومن جهة أخرى، تخشى أن يكون الدعم الصيني لمالي على حساب تحالفها الاستراتيجي مع الصين. وهذا يُثير تساؤلات عديدة حول مستقبل العلاقات الجزائرية الصينية، وما إذا كانت الجزائر ستتخذ خطوات تصعيدية للرد على هذه التطورات.
ما وراء الكواليس: تأثير الاتفاقية على الوضع الأمني في المنطقة
من المتوقع أن يؤثر التحالف العسكري الصيني-المالي بشكل كبير على الوضع الأمني في منطقة الساحل، خاصة في ظل المواجهات المستمرة بين القوات المالية والجماعات الانفصالية في الشمال. وفي هذا السياق، يُمكن اعتبار أن دعم الصين للحكومة المالية سيُعزز من موقفها العسكري في مواجهة هذه الجماعات، مما قد يؤدي إلى تصعيد العنف في المنطقة.
ومن جهة أخرى، يُثير هذا الاتفاق مخاوف لدى العديد من القوى الإقليمية والدولية، التي ترى أن تزايد النفوذ الصيني في المنطقة قد يؤدي إلى تعقيد الصراعات القائمة، خاصة في ظل ارتباط الجماعات المسلحة بعوامل خارجية مثل تنظيمات القاعدة والدولة الإسلامية.
إلى أين تتجه الأمور؟
في ضوء هذه التطورات، يبقى السؤال الرئيسي: ما هو تأثير هذه الاتفاقية على العلاقات الإقليمية، وخاصة بين الجزائر ومالي؟ وكيف ستُعيد الصين ترتيب أوراق اللعبة في منطقة الساحل؟. فما هو مؤكد أن الأيام القادمة ستشهد تحركات دبلوماسية حاسمة بين القوى الإقليمية، وربما تغيرات في التحالفات التقليدية. فالجزائر التي كانت تُعتبر لاعبًا أساسيًا في منطقة الساحل، قد تجد نفسها مُجبرة على إعادة تقييم سياستها الخارجية تجاه مالي، وربما تعزيز علاقاتها مع دول أخرى مثل روسيا أوتركيا، للتعويض عن الخسائر الناجمة عن التقارب الصيني المالي. وفي الوقت ذاته، ستواصل الصين تعزيز نفوذها في إفريقيا، مدفوعة برغبتها في الوصول إلى موارد القارة وتعزيز دورها كلاعب رئيسي على الساحة الدولية.