الباحث هشام مداحي يكتب عن “ترند الشوكولاتة”… عندما تُصنع القيم في مختبرات السوشيال ميديا

23 ديسمبر 2024
الباحث هشام مداحي
الباحث هشام مداحي يكتب عن “ترند الشوكولاتة”… عندما تُصنع القيم في مختبرات السوشيال ميديا

 

 

هشام مداحي *

 

ظاهرة “ترند الشوكولاتة” التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي كشكل من أشكال تعبير التلاميذ عن حبهم لمعلميهم ليست مجرد فعل عاطفي عفوي، بل هي انعكاس لطبيعة العصر الرقمي الذي نعيش فيه. هذا “الترند” يمثل نموذجا لفهم آليات صناعة القيم والتوجهات الجماعية في مختبرات السوشيال ميديا، حيث تتحول التفاعلات البسيطة إلى رموز اجتماعية تعيد تشكيل السلوكيات الفردية والجمعية.

 

كما أوضح عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه “الهيمنة الرمزية“، فإن “الهيمنة الثقافية تُمارس من خلال السيطرة على الرموز والمعاني“، وهو ما يتجلى بوضوح في منصات التواصل الاجتماعي. هذه المنصات تعيد صياغة مفاهيم التفاعل الاجتماعي، وتوجه الجماهير نحو تبني سلوكيات تبدو طبيعية، لكنها في الحقيقة ناتجة عن عمليات دقيقة لصناعة الرأي العام والقيم.

 

وسائل التواصل الاجتماعي لا تظهر فقط ما يريده المستخدمون، بل ما تقرره الخوارزميات بناء على ما يحقق التفاعل الأكبر. كما قال شون باركر، أحد مؤسسي فيسبوك: “نبني أدوات تجعلنا مدمنين، ونحن نعلم ذلك“. هذه الأدوات تخلق بيئة تجعل المستخدمين عرضة للتأثير والتوجيه، مما يؤدي إلى تعزيز “فقاعات” اجتماعية تضخم القيم والترندات الموجهة.

 

وفي كتابه “الحداثة السائلة”، يشير المفكر زيجمونت باومان إلى أن “الهويات والقيم تتغير بسرعة فائقة في ظل قوى اجتماعية متحركة“. ظاهرة “ترند الشوكولاتة” تظهر بوضوح كيف تستخدم الخوارزميات لتكريس هذه القيم المتغيرة، حيث يعاد تشكيل السلوك الجمعي من خلال التكرار والانتشار الواسع. فالخورزميات تشتغل وتطور بشكل كبير لتظهر للمستخدمين المحتوى الذي يتماشى مع اهتماماتهم السابقة، مما يؤدي إلى خلق “فقاعات تصفية” تعزلهم عن وجهات النظر المختلفة. هذا الانعزال يعزز الشعور بأن المشاركة في الترند هو الخيار “الصحيح” أو “المطلوب“.

 

ينساق الأفراد، وخاصة الشباب، وراء مثل هذه الترندات نتيجة الضغط الجماعي، في محاولة للانتماء إلى هوية جماعية تمنح لهم عبر التفاعل مع هذه السلوكيات بالإعجابات، والمشاركات، والتعليقات. ليس بدافع صادق، بل خوفا من فقدان الشعور بالانتماء أو عدم مواكبة ما هو شائع، وهي ظاهرة تعرف بـ”الخوف من الفقدان” (FOMO).. في هذا السياق، لفت غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير“: “الأفراد داخل الجماعة يفقدون إحساسهم بالمسؤولية الشخصية ويتبعون السلوك الجمعي“. هذا ما يفسر تكرار التلاميذ لهذا الترند دون تفكير نقدي في معناه أو جدواه.

 

هذه الظواهر ليست مجرد انعكاس لتطورات تقنية، بل هي نتيجة لتحول عميق في البنية الاجتماعية. كما أوضح المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في كتابه “دفاتر السجن”: “الهيمنة الثقافية تعتمد على قبول الجماهير للقيم المفروضة عليها“. في حالة “ترند الشوكولاتة“، تُفرض القيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تمثل الهيمنة الجديدة، حيث تغرس السلوكيات بشكل غير مباشر من خلال التكرار والانتشار. يلعب “الدليل الاجتماعي” دورا كبيرا، إذ يتأثر الناس بآراء وسلوكيات المؤثرين الذين يعتبرونهم نماذج يحتذى بها.

 

للإشارة لم تقتصر آثار ترند “الشوكولاتة” على الجانب الاجتماعي فقط، بل تجاوزته لتشمل الجانب التجاري. استغل المسوقون هذه الظاهرة للترويج لمنتجاتهم، مما أدى إلى تعزيز الاستهلاك الرمزي بدلا من الحقيقي. أصبحت الشوكولاتة هنا رمزا اجتماعيا أكثر من كونها مجرد منتج غذائي.

 

مثل هذه الترندات تساهم في تسطيح الخطاب العام، حيث تتحول القضايا إلى تفاعلات سطحية سريعة الزوال. وأشارت إليزابيث نويل-نيومان في كتابها “دوامة الصمت”: “الرأي العام ليس انعكاسا دقيقا للواقع، بل هو بناء اجتماعي متأثر بعوامل متعددة”. علاوة على ذلك، تؤثر هذه الظواهر على العلاقات التعليمية، حيث تتحول العلاقة بين التلاميذ والمعلمين إلى استجابة عاطفية مؤقتة بدلا من تقدير مستدام قائم على الاحترام الحقيقي.

 

إذا أردنا مواجهة التأثير الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي، علينا تعزيز التفكير النقدي لدى الشباب. وتحدث إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية”: “الوعي النقدي هو الخطوة الأولى نحو التحرر”. هذا يتطلب توعية الشباب بآليات صناعة المحتوى الرقمي ومخاطر الانسياق وراء التوجهات دون تحليل.

 

كما يجب تنظيم عمل الخوارزميات لتقليل تأثيرها السلبي على السلوكيات الجماعية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمؤسسات التعليمية لعب دور رئيسي في توعية الطلاب وتوجيههم نحو الاستخدام المسؤول لوسائل التواصل.

 

ترند الشوكولاتة” ليس مجرد تعبير عاطفي عن التقدير، بل هو مثال على كيفية تشكيل السلوكيات والقيم في عصر السوشيال ميديا. لفهم هذه الظواهر والتعامل معها بفعالية، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في علاقتنا مع وسائل التواصل، وتعزيز الوعي النقدي، وتنظيم تأثير المنصات الرقمية. إذا لم نتحرك الآن، فإن مستقبل استقلالية التفكير الفردي قد يصبح مهددا في مواجهة الهيمنة الثقافية الرقمية.

 

*هشام مداحي طالب باحث في سلك الدكتوراه بجامعة ابن طفيل 

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.