يواصل التبادل التجاري بين البلدين نموه المستمر بعد مضي نحو عقدين على توقيع اتفاقية التجارة الحرة (FTA) بين الطرفين. وتُعدّ المملكة المغربية من بين الدول القليلة التي تستفيد من هذه الاتفاقية، وهي الدولة الإفريقية الوحيدة التي تمتلك هذا الامتياز، مما يمنحها ميزة استراتيجية في القارة. وذلك في خطوة تجسّد أبعاد التعاون الاستراتيجي والاقتصادي بين المغرب والولايات المتحدة.
خلفية تاريخية: اتفاقية التجارة الحرة في سياق ما بعد 11 سبتمبر
في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، وفي ظل التوجهات الأميركية لتعزيز التحالفات مع الدول الشريكة في مكافحة الإرهاب، برز المغرب كحليف استراتيجي للولايات المتحدة. وتم توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين في عام 2004، والتي دخلت حيز التنفيذ في يناير 2006. ولم تكن هذه الاتفاقية مجرد اتفاق اقتصادي، بل كانت تتويجًا لعلاقات تاريخية وأمنية طويلة الأمد بين الرباط وواشنطن. حيث سعت الإدارة الأميركية، في عهد الرئيس جورج بوش الابن، إلى توسيع رؤيتها لمنطقة تجارة حرة أوسع في الشرق الأوسط الكبير، وكان المغرب ضمن هذه الرؤية.
وعلى الجانب المغربي، استغلّت السلطات الفرصة لتعزيز العلاقات الثنائية، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، ولكن أيضًا من خلال التعاون الأمني والعسكري، مما أهّلها للحصول على وضع “حليف رئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي” (NATO).
نمو التجارة الثنائية: أرقام ومؤشرات
منذ بدء تنفيذ الاتفاقية، شهد التبادل التجاري بين المغرب والولايات المتحدة قفزة نوعية. فقد تضاعف إجمالي حجم التجارة الثنائية بأكثر من أربعة أضعاف، من حوالي 1.3 مليار دولار في عام 2006 إلى 5.5 مليار دولار في عام 2023. ويشمل هذا النمو مجالات متعددة، من أبرزها صادرات المغرب من الأسمدة وأجهزة أشباه الموصلات والمركبات الآلية، في حين تستورد المملكة الوقود وقطع غيار الطائرات والتوربينات الغازية من الولايات المتحدة.
وتأتي أحد أبرز العوامل التي ساهمت في هذا النمو هو تخفيض التعريفات الجمركية من الجانب المغربي، مما أعطى المنتجين الأميركيين ميزة تنافسية للوصول إلى السوق المغربية. ومن جانب آخر، استفاد المغرب من هذه الاتفاقية بتوسيع دائرة شركائه التجاريين وتقليل اعتماده على أوروبا، مما عزز من اندماجه في الأسواق العالمية.
التحديات: العجز التجاري بين الطموحات والواقع
رغم الأرقام الإيجابية والنمو الملحوظ، إلا أن هناك تحديات لا يمكن تجاهلها. فقد ارتفع العجز التجاري للمغرب مع الولايات المتحدة من أقل من مليار دولار في عام 2006 إلى حوالي 1.8 مليار دولار في عام 2023. ويشير هذا العجز إلى أن الإمكانيات الاقتصادية الكاملة لاتفاقية التجارة الحرة لم تُستغل بعد بالشكل الأمثل.
ويعزو بعض الخبراء هذا العجز إلى هيمنة بعض المنتجات الأميركية على السوق المغربية دون أن يقابلها ارتفاع مماثل في الصادرات المغربية إلى الولايات المتحدة. وعلى الرغم من الجهود المبذولة، تبقى نسبة الواردات الأميركية من السلع والخدمات الأجنبية إلى المغرب ضعيفة.
العوامل المؤثرة في الاقتصاد المغربي
بالإضافة إلى تأثير اتفاقية التجارة الحرة، شهد المغرب خلال العقدين الماضيين نموًا اقتصاديًا ملحوظًا. فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 63 مليار دولار في عام 2005 إلى ما يقرب من 131 مليار دولار في عام 2022. ويعود هذا النمو إلى مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، بما في ذلك التحسن في القطاع الزراعي بفضل هطول كميات هامة من الأمطار، واستغلال المستثمرين للموقع الجغرافي الاستراتيجي للمغرب لتعزيز سلاسل الإمداد العالمية خلال جائحة كوفيد-19، إلى جانب السياسات الحكومية المشجعة للاستثمار في البنية التحتية.
ومن جهة أخرى، شهدت الصادرات المغربية إلى الولايات المتحدة تحسنًا ملموسًا، خاصة في مجالات مثل الأسمدة والمنسوجات. إذ ارتفعت حصة صادرات الأسمدة من 7% في عام 2008 إلى 23% في عام 2021، بينما زادت حصة المنسوجات من 8% إلى 12% خلال الفترة ذاتها.
فرص مستقبلية: استثمارات جديدة في ضوء قانون خفض التضخم الأميركي
في ضوء التحديات والفرص التي يطرحها التبادل التجاري بين البلدين، يقدم معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى خطة عمل جديدة تهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية بين المغرب والولايات المتحدة. تركز الخطة على تشجيع الاستثمار في قطاعات جديدة مثل بطاريات السيارات الكهربائية، وهي فرصة يمكن أن يستغلها المغرب للوصول إلى الأسواق الأميركية المتنامية.
كما تشير المصادر إلى أن قانون خفض التضخم الأميركي لعام 2022 يشجع على تمويل الصناعات التي تسهم في تقليل الكربون، وخاصة في الدول التي ترتبط مع الولايات المتحدة باتفاقيات تجارة حرة. ويُمكن للمغرب أن يستفيد من هذا التوجه لتعزيز استثماراته في هذه القطاعات.
إصلاحات داخلية: ضرورة ملحة لتعزيز الفوائد الاقتصادية
من جانب آخر، تؤكد المصادر على ضرورة أن يدفع الاتفاق التجاري المغرب إلى إجراء إصلاحات داخلية من شأنها فتح أسواقه بشكل أكبر وتحقيق نمو اقتصادي أكثر استدامة. ففي عام 2016، أشادت منظمة التجارة العالمية بالإجراءات التي اتخذتها المملكة لتحسين نظامها التجاري، بما في ذلك خطة المغرب الأخضر، التي تهدف إلى تقليل العجز التجاري وتعزيز التنمية المستدامة.
شراكة استراتيجية تواجه تحديات وتعد بفرص مستقبلية
لا شك أن اتفاقية التجارة الحرة بين المغرب والولايات المتحدة تمثل فرصة استراتيجية لكلا البلدين، لكنها تأتي أيضًا بتحديات تتطلب حلولًا مبتكرة واستثمارات في قطاعات جديدة. ويمكن للمغرب أن يعزز من مكانته كحليف استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة من خلال الاستفادة المثلى من هذه الاتفاقية، خاصة في ضوء التوجهات الجديدة للاقتصاد العالمي نحو تقليل الكربون والاستثمار في التقنيات الخضراء.
ويظل تحقيق التوازن بين الاستفادة من الفرص التجارية وتقليل العجز التجاري هدفًا يستحق التركيز عليه في السنوات المقبلة، لضمان استدامة النمو الاقتصادي وتعزيز العلاقات الثنائية بين الرباط وواشنطن.