التيليتون والماراطون: عندما يتصدر الإحسان واجهة الإعاقة ويغيب الحق؟!

4 مايو 2025
التيليتون والماراطون: عندما يتصدر الإحسان واجهة الإعاقة ويغيب الحق؟!
محمد شَاكِري

نظّمت القناة الثانية بشراكة مع الودادية المغربية للمعاقين تيليتون 2025 وصف بالخيري لجمع التبرعات لتوسعة مركز “نور” الخاص بالأشخاص في وضعية إعاقة. وجرى الحدث في أجواء احتفالية حماسية، حيث تسابقت وجوه إعلامية وفنية وسياسية إلى التعبير عن دعمها، وسط بث مباشر مفتوح يشبه “الماراطون التلفزيوني”، أُحيط بخطاب دعائي عالي الوتيرة عن “التضامن الوطني” و”القصص الملهمة”.

وجعلت هذه العملية نقاشا عميقا ومعقدا يطفو على السطح. حيث أن تيليتون القناة الثانية لم يكن مجرد مبادرة خيرية، بل كشف عن هشاشة في تمثل قضايا الإعاقة داخل الإعلام، وعن مأزق في خطاب الحماية الاجتماعية، كما أعاد تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها الحراك الحقوقي نفسه.

فمنطق الشفقة وتغليب العاطفة على الحقوق أول ما أثار الانتباه في هذا التيليتون الذي اختار منطق الشفقة كمدخل للتواصل مع الجمهور. حيث تم تصوير الأشخاص في وضعية إعاقة كضحايا محتاجين للعطف والتبرع، وليس كمواطنين لهم حقوق تفرض على الدولة تلبيتها في إطار العدالة الاجتماعية. واستُخدمت قصص فردية مؤثرة – معزولة عن سياقها السياسي والاجتماعي- للتأثير في المُشاهد، بأسلوب أقرب إلى “الدراما الإنسانية” منه إلى الصحافة الجادة أوالخطاب التوعوي المسؤول.

في المقابل، غاب بشكل تام النقاش حول السياسة العمومية، وحول التزامات الدولة، ومسؤولية مختلف القطاعات الحكومية في تقديم خدمات إدماجية عادلة وشاملة. وهذا ما جعل بعض المتتبعين يتساءلون: هل نحن أمام مبادرة دعم اجتماعي أم تسويق بوجه إنساني لفشل السياسات العمومية في ضمان الحد الأدنى من حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة؟

النجاحات الفردية ليست بديلاً عن العدالة

ما لا يمكن إنكاره هو أن التيليتون عرض نماذج ناجحة، وتم تقديم أشخاص تحدوا الإعاقة وحققوا مسارات مهنية أوفنية لافتة. لكن تسويق هذه النماذج كـ”معجزات فردية” يخفي حقيقة أن وراء كل نجاح فردي منظومة نضال، ودعم أسري، وتضامن مدني، وغالباً جهد مضنٍ لتعويض غياب سياسات دامجة صريحة.

إن الإعاقة لا تُختزل في من تفوق عليها، بل تتجسد أيضاً في من يُقصى بصمت من التعليم، ومن يُحرم من الشغل، ومن تُغلق أمامه المؤسسات الصحية، ومن لا يتمكن من ممارسة مواطنته. ما نحتاجه هو أن تصبح هذه النجاحات الجماعية ممكنة، لا أن تُستغل حالات فردية لتبرير القصور.

الإعلام وإعادة إنتاج التمثلات النمطية

للإعلام دور مركزي في تشكيل الوعي الجماعي. لكن للأسف، لا يزال الإعلام المغربي بعيداً عن تطوير مقاربة دامجة لقضايا الإعاقة. إذ نادراً ما نشهد حضوراً حقيقياً للأشخاص في وضعية إعاقة كفاعلين في إنتاج المحتوى، أوكخبراء، أوكمواطنين معنيين بمختلف قضايا الشأن العام، وليس فقط بملف الإعاقة.

ويبدو أن التيليتون، عوض أن يكون لحظة نقد ومساءلة، تحول إلى أداة لتكريس التمثلات النمطية: الإعاقة = احتياج، والاحتياج = تبرع، والتبرع = تضامن. هذا المنطق يتناقض جذرياً مع مقاربة حقوق الإنسان، ويعكس تأخراً مؤسساتياً في تنزيل مقتضيات الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي صادق عليها المغرب سنة 2009.

الحراك الحقوقي وسؤال التحيين

من جهة أخرى، قد يكون هذا التيليتون -الذي كان محط اجماع في انتقاد مقاربته من الفاعلين الحقوقيين- فرصة لإعادة تقوية الحركة الحقوقية العاملة في مجال الإعاقة وتجاوز الأزمة الداخلية التي وصلت إلى حد الانقسامات والتراشقات اللفظية في منصات التواصل، يتم فيها تغليب منطق التموقع، والتنافس، والسعي إلى الزعامة، وأحياناً لغة التخوين وإطلاق الأحكام الجاهزة على من يختلف أو يختار زاوية أخرى للنقد.

ورغم عدالة القضية، ونُبل أغلب النضالات، فإن استمرار هذه الممارسات يهدد فعالية الحراك الحقوقي، ويجعله أسير صراعات جانبية تعيق تراكم المكتسبات، وتمنح مجالا أكبر للنكوص والردة الحقوقيتين، وتسمح للترويج القسري لمقارات بائدة تختزل قضية الإعاقة في العجز والقصور وتعتمد منطق الاحسان منهجا بائسا.

الماراطون الحقيقي ومشوار الألف ميل

إن التيليتون لم يكن سوى محطة عابرة، أما الماراطون الحقيقي فما يزال ممتداً أمامنا، ماراطون من أجل إحداث تحول عميق في العقليات، وبناء إعلام عمومي وخاص متحرر من منطق العاطفة والتمثلات النمطية، إعلام قائم على مبادئ الإنصاف والمواطنة الكاملة، لا على خطابات الإحسان والموسمية.

ولن يتحقق هذا المسار إلا بإرساء شراكة فعلية، متكاملة ومؤسساتية، بين المجتمع المدني الجاد، والقطاعات الحكومية المعنية، والمؤسسات الوطنية ذات الاختصاص، من أجل تنزيل مقتضيات الدستور المغربي ذات الصلة، وتفعيل الالتزامات الدولية التي صادق عليها المغرب، وعلى رأسها الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة. فالإدماج ليس امتيازاً يُمنح، بل حق يُنتزع في إطار تعاقد اجتماعي تحكمه سيادة القانون، وتُوجهه قيم الكرامة والمساواة والمواطنة.

إن المرحلة القادمة تتطلب تعبئة جماعية مسؤولة، تتجاوز منطق المبادرات الظرفية، نحو سياسات عمومية دامجة، وإعلام مُهيكل، وفضاء عمومي يحتضن صوت الأشخاص في وضعية إعاقة كفاعلين لا كمواضيع للرثاء.

Source العربية.ما
Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.