الدقة المراكشية من طقس الذاكرة إلى مسرح البحث
في مساءٍ معطر بإيقاعات “التعريجة المراكشية” وأصداء “الحي” الشعبي، تحوّل المدرج رقم 6 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة القاضي عياض، يوم الثلاثاء 1 يوليوز 2025، إلى فضاء يحتفي بتراث ظّلت مراكش تحتضنه قرونا: “فن الدقة المراكشية“…
الندوة الفكرية، التي حملت عنوان «الدقة المراكشية من طقس الذاكرة إلى مسرح البحث: مقاربة في المفهوم والتأويل»، جاءت ثمرة شراكة بين جمعية “بابا أفوس” وكلية الآداب، واستقطبت نخبة من الأكاديميين والممارسين وعشاق التراث المغربي.
الندوة كانت من تأطير ثلاثي يسائل الذاكرة ويستشرف المستقبل:
د. عبد الجليل الكريفة، عميد الكلية وصاحب رؤية مواطِنة لتعشيق التراث بالبحث العلمي؛
ذ. “أنس الملحوني، صوت إذاعي، وباحث يسعى لبعث “الدقة” من الأزقة إلى المخبر الأكاديمي؛”
ذ. محمد عزّ الدين سيدي حيدة، مسير الجلسة، نسق الخيوط وحفظ الإيقاع.
“من الحومة إلى الجامعة“: وفي مداخلة كسرت النمط حيث تميز العرض بحس نقدي وأصالة منهجية، كشف من خلاله الإعلامي أنس الملحوني تحولات المعنى في تلقي فن الدقة المراكشية، حيث استهل مداخلته بإشادة لمبادرة جمعية “بابا أفوس” التي “أعادت للجامعة ما يدور في الحومة من نبض”، ثم رسم خارطة باذخة التفاصيل:
1ـ تفنيد الأصل الروداني: الملحوني هدم الأطروحة الشائعة القائلة إن الدقة المراكشية محض امتداد للدقة الرودانية، مؤكدا تفردها بإيقاعات وشعريات وبنى أداء تشهد لمراكش بحضرتها المركّبة.
2ـ ثراء العيط المراكشي: استعرض الباحث النماذج الشعرية – عيطات – (ثنائية، ثلاثية، رباعية، سداسية)، مبرزا مهارة الناظم الشعبي المراكشي في التوليف بين الوفاء للأصل واستباق التجديد.
لم يسلم الحقل الأكاديمي من نقده؛ إذ اعتبر كثيرا من الأبحاث “اقتطافا” متسرعا يسقط مفاهيم غريبة على سياق طقوسي واجتماعي خاص، فتنزلق إلى اختزالات تفقد الدقة روحها.
وفي توصيات على وقع “التعريجة” المراكشية: وقبل أن تطوى دفاتر الجلسة، خرج اللقاء بخمسة مفاتيح لإنقاذ هذا الفن من النسيان المؤسسي:
1ـ شراكة حية بين الباحثين و«المّْقدمين» والشعراء الشعبيين لصون “جِذوة” الطقس؛
2ـ أرشيف سمعي بصري تشرف عليه الجامعة يوثق للضربات والإشعارات والزغاريد؛
3ـ منهج مكيف يحترم خصوصيات الدقة بدل إسقاط النظريات الغربية الجاهزة؛
4ـ إدراج الدقة في المناهج الموسيقية والتربوية، مع الحفاظ على طابعها الطقسي؛
5ـ إعلام تفسيري يشرح ويحلل، دون أن يكتفي بعرض فولكلوري عابر.
وبتراث يتجدد بالعلم، بدا المشهد في جامعة القاضي عياض: طقسا شعبيا خرج من أزقة “الحومة” ليقف على خشبة البحث العلمي، محمولا على أكتاف أساتذة غازلهم صدى الإيقاعات المختلفة والمتنوعة. أراد من خلالها الملحوني ربط الماضي بالحاضر؛ وأراد الكريفة تثبيت هذا الرباط في صروح المعرفة. أما الحضور، فقد وجدوا أنفسهم بين نبض التاريخ وأسئلة المستقبل، يوقنون أن الدقة المراكشية ليست مجرد إيقاعٍ يطرب، بل ذاكرة تتحرك، وهوية تروى، ومنبر للبحث والاكتشاف.