الصورة في المدرسة المغربية لم تعد ترفًا بصريًا أو وسيلة تزيينية تُعلق على الجدران، بل أصبحت ضرورة تربوية وتواصلية تفرضها متغيرات العصر.
في زمنٍ طغت فيه الثقافة البصرية على المشهد العام، صار لزامًا على الفاعل التربوي أن يعي أهمية الصورة كأداة فاعلة في بناء المعارف وتوجيه السلوك.
فالمدرسة اليوم مطالبة بإعادة النظر في علاقتها بالصورة، وتجاوز النظرة التقليدية التي تحصرها في الهامش لصالح إدماجها الواعي والهادف في صلب العملية التعليمية.
– عصر الصورة الرقمية وسؤال المدرسة
في حقبة يُوصف فيها العصر بـ”تسونامي بصري” وحيث تتجاوز الصورة كونها مجرد انعكاس للواقع لتصبح منتجا له، لم يعد التعليم التقليدي القائم على التلقين النصي المجرد قادرا على مواكبة تحولات المتلقي المعاصر. فالمتعلم اليوم محاط بسيل جارف من الصور والمعلومات المرئية عبر مختلف الوسائط الرقمية، من شاشات الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي إلى الإعلانات التفاعلية. هذا التحول الجذري في المشهد البصري يفرض على المدرسة المغربية، كما على سائر النظم التعليمية الحديثة، ضرورة الانتقال من مجرد تقديم المعرفة إلى مهمة بناء وعي نقدي قادر على فك شفرات هذه الصورة وقراءة رسائلها العميقة.
هنا تصبح الصورة وسيلة بيداغوجية لا غنى عنها، تُستثمر بفاعلية في تنمية الحس النقدي وتربية الوجدان على القيم، سواء من خلال الصورة الثابتة في الكتب المدرسية أو عبر الوسائط المتحركة كالفيلم التربوي، كما توصي بذلك الدراسات الحديثة في علوم التربية والديدكتيك البصري. يمثل هذا التوجه استجابة حتمية لمتطلبات الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999) الذي دعا إلى إدماج قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وتفعيل أبعادها السلوكية والوجدانية.
– الصورة في المنهاج التربوي المغربي: من التوضيح السطحي إلى بناء المعنى الدلالي
لقد شهدت مقاربة الكتاب المدرسي المغربي للصورة تحولات تدريجية، بدأت من غيابها التام أو حضورها الباهت كعنصر تزييني، مرورا بتضمين صور بالأبيض والأسود ثم الملونة، وصولا إلى عصر الصورة الرقمية ثلاثية الأبعاد والتفاعلية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من النسيج المعرفي للمقررات. هذه التطورات لم تكن مجرد تحديثات شكلية، بل تعكس وعيا متزايداً بأن الصورة التربوية تتجاوز كونها مجرد “أداة توضيحية” للنص المكتوب، لتغدو “علامة” بصرية لغوية قائمة بذاتها، تشتغل ضمن نظام دلالي وثقافي خاص يسهم بفاعلية في بناء المعنى لدى المتعلم، لا مجرد استهلاكه السلبي.
يشير الباحثون في سيميائيات الصورة، إلى أن الصورة ليست كيانا منعزلا، بل هي بنية معقدة تتطلب تفكيكا وتحليلا وتأويلا عميقا لا يتم بمعزل عن السياق الثقافي، الاجتماعي، والتربوي الذي أُنتجت فيه وتُعرض ضمنه. إن الصورة، بهذا المعنى، ليست مجرد مرآة تعكس الواقع، بل هي نافذة تطل على عوالم متخيلة، ومُنتج يُعاد بناؤه في ذهن المتلقي. هذه الخاصية الدلالية للصورة تعزز من دورها في تدريس القيم، إذ تُمكن من تجسيد ما يصعب قوله أو شرحه بالكلمات، وتحويل المفاهيم المجردة إلى مشاهد حسية راسخة في الذاكرة الوجدانية للمتعلم. فالصورة تمثل “وسيلة لغوية فاعلة” تعكس رؤية المنهج وتُساهم في تحقيق الأهداف التعليمية، من خلال إثارة الانتباه وتعميق الفهم وتثبيت المعلومات.
– الفيلم التربوي وسينما القيم: طاقات كامنة لترسيخ الحس النقدي والوعي الحقوقي
يُمثل الفيلم التربوي، باعتباره شكلا متقدما من أشكال الصورة المتحركة، قفزة نوعية في الوسائط التعليمية. إنه يتجاوز الدور الترفيهي للسينما إلى كونه أداة بيداغوجية قوية ذات أبعاد نقدية وقيمية متعددة. الفيلم، في هذا السياق، يدمج قوة السرد البصري بالحركة والصوت والإخراج، ليقدم للمتعلم تجربة تعليمية شاملة تخاطب العقل وتلامس الوجدان في آن واحد. وقد أكدت دراسات حديثة، أن توظيف الوسائط البصرية المتحركة كالفيلم يُفعّل مهارات التفكير النقدي ويُنمي قدرة المتعلمين على التحليل والتأويل بشكل يفوق الوسائل التعليمية التقليدية.
تكمن الوظائف التربوية المحورية للفيلم في بناء القيم والحس النقدي في قدرته على الحفز والانتباه العميق، حيث يستدعي انخراطا وجدانيا حقيقيا يُحفز على التركيز وتلقي المعلومات بشكل أعمق. كما يدفع المتعلم إلى التحليل والتأويل النقدي، من خلال تفكيك الرسائل الظاهرة والمضمرة، وتحليل الشخصيات والصراعات والرموز البصرية والسمعية، مما يُنمي لديه مهارات التفكير النقدي والاستنتاج. والأهم من ذلك، يُسهم الفيلم في التمثل القيمي والتعاطف الوجداني، بتحويل تدريس القيم من مفاهيم نظرية مجردة إلى مواقف إنسانية حية، حيث يختبر المتعلم هذه القيم بشكل وجداني عميق، مما يولد لديه تعاطفا ويدفعه نحو الفعل.
ففي سياق التربية على حقوق الإنسان مثلا، يمكن لفيلم وثائقي حول “النكبة الفلسطينية” أو معاناة اللاجئين السوريين أن يُغرس في المتعلم وعيا نقديا عميقا بالتهجير القسري بعيدا عن التجريد النظري، فهو لا يعرض أرقاما، بل وجوها، أصواتا، وآمالا مكسورة، مما يولد تعاطفا غير مسبوق ويدفع المتعلم إلى فهم معنى “الظلم” ليس كمفهوم، بل باعتباره واقعا مؤلما يُنكر حقوقا أساسية.
– تحديات واقعية لتوظيف الصورة في المدرسة المغربية: بين الطموح والإنجاز
على الرغم من الإمكانات الهائلة للصورة والفيلم التربوي في تطوير العملية التعليمية وبناء القيم، فإن واقع توظيفهما في المدرسة المغربية لا يزال يواجه مجموعة من التحديات الهيكلية والديداكتيكية. وقد أظهرت نتائج بحث ميداني أنجز بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين حول ” دور الصورة السينمائية في تعزيز الحس النقدي والتربية على القيم لدى المتعلم”، وجود فجوة بين القناعة بأهمية الصورة وبين ممارسات التوظيف الفعلية داخل الفصول الدراسية.
من أبرز هذه التحديات، يبرز غياب التكوين التخصصي المنهجي، حيث أن غالبية الأساتذة، رغم وعيهم بأهمية الصورة، لم يتلقوا تكوينا بيداغوجيا كافيا في ديداكتيك الصورة، أو القراءة السيميائية للنصوص البصرية، أو آليات توظيف الفيلم التربوي. يضاف إلى ذلك نقص التجهيزات والبنية التحتية، إذ تفتقر العديد من المؤسسات التعليمية، خاصة في المناطق القروية أو شبه الحضرية، إلى قاعات العرض، أجهزة العرض، والشاشات، وشبكة الإنترنت عالية السرعة، مما يحد بشكل كبير من إمكانية دمج الوسائط الرقمية والسينمائية.
كما أن التصور النمطي للسينما لا يزال يختزلها في كونها مجرد “متعة وترفيه”، بدلا من اعتبارها أداة معرفية وتحليلية وبيداغوجية، مما يقف حائلا أمام تبني مقاربات جديدة. ولا ننسى الحمولة الثقافية للمتلقي وتأويلاته، فالمتعلم يتفاعل مع الصورة انطلاقا من خلفيات ثقافية وشخصية مكتسبة، مما قد يؤدي إلى سوء فهم الرسالة البيداغوجية، ويتطلب من الأستاذ مهارة عالية في التوجيه الديداكتيكي. فضلا عن كون الضغط الزمني ومرونة المناهج يشكلان تحديا، فالمقررات الدراسية الحالية غالبا ما تكون كثيفة المحتوى، ويواجه الأساتذة ضغطا زمنيا كبيرا لإتمام البرنامج، مما قد يجعلهم يتجنبون دمج أنشطة تتطلب وقتا إضافيا.
في سياق الواقع المغربي الراهن، تكتسب هذه التحديات أبعادا أكثر إلحاحا وخطورة. فالمدرسة، كونها مؤسسة للتنشئة الاجتماعية، ليست بمعزل عن التحولات السلوكية والقيمية التي يشهدها المجتمع. فحوادث الاعتداء المؤسفة التي طالت أساتذة وأستاذات، وآخرها تلك التي أودت بحياة أستاذة بمدينة أرفود، بالإضافة إلى بعض السلوكات غير المقبولة لبعض المتعلمين داخل الفصول الدراسية، تُبرز بجلاء مدى الحاجة الماسة إلى تعزيز منظومة القيم وإعادة بناء الحس النقدي والمسؤولية لدى الناشئة. هذه الظواهر ليست مجرد حوادث معزولة، بل هي مؤشرات على تآكل بعض القيم الأساسية كاحترام الآخر، وتقدير العلم، وقبول الاختلاف. هنا، يصبح توظيف الصورة والفيلم التربوي ليس مجرد خيار بيداغوجي، بل ضرورة استراتيجية لغرس قيم التسامح، التعاطف، الحوار، ورفض العنف، وتنمية قدرة المتعلم على التفكير في عواقب أفعاله، وتمييز الصواب من الخطأ، وبناء مواقف إيجابية تجاه ذاته ومحيطه ومجتمعه. فالصورة، بقدرتها على مخاطبة الوجدان وتقديم نماذج سلوكية، يمكن أن تكون أداة قوية في مواجهة هذه التحديات السلوكية والقيمية الراهنة.
– نحو مدرسة مُبصِرة ومُبصِّرة: رؤية استشرافية لتفعيل دور الصورة في التعليم المغربي
لتجاوز هذه المعيقات، وتفعيل الدور المحوري للصورة والفيلم التربوي في بناء التعلمات القيمية وتعزيز الحس النقدي، يتطلب الأمر تبني رؤية استشرافية متكاملة تضع الصورة في صلب العملية التعليمية، وتشمل جميع المستويات، بدءا من صانعي القرار ووصولا إلى الفاعل التربوي في الفصل الدراسي. بناء على أدبيات الموضوع، والمقترحات الواردة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، يمكن بلورة تصور مقترح على النحو التالي:
على مستوى المناهج والبرامج الدراسية: يجب إدماج وحدات “قراءة الصورة” و”السينما التربوية” كمكونات أساسية، لا تقتصر على مادة اللغة العربية فحسب، بل تمتد لتشمل مواد التربية على المواطنة، الاجتماعيات، التربية الفنية، وحتى العلوم، لتمكين المتعلم من أدوات تحليل الصورة في سياقات معرفية وقيمية متنوعة. كما يجب إعداد وتوزيع أدلة مفصلة للأساتذة تتضمن أمثلة تطبيقية، مقترحات لأفلام تربوية مختارة بعناية، ونماذج تخطيط دروس تتضمن أنشطة قبلية وأثناء وبعد عرض الفيلم أو تحليل الصورة، مع إتاحة هذه الموارد عبر منصات رقمية تفاعلية.
على مستوى التكوين الأساسي والمستمر للأطر التربوية: ينبغي إدراج مكون إلزامي ومُعمق حول “ديداكتيك الصورة والقراءة السيميائية للنصوص البصرية” ضمن برامج التكوين الأساسي للأساتذة بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين. يجب أن يشمل هذا المكون جوانب نظرية وتطبيقية، مع تنظيم دورات تكوينية مستمرة وورشات عمل عملية للأساتذة الممارسين لتبادل الخبرات ودعوة خبراء في السينما والتربية البصرية.
على مستوى الحياة المدرسية والبنية التحتية: من الضروري دعم وتجهيز الأندية السينمائية والثقافية والحقوقية بالمؤسسات التعليمية، لتُصبح فضاءات حقيقية للعرض، النقاش، والإنتاج، وتزويدها بالبنية التحتية المناسبة. كما ينبغي تفعيل “السينما المدرسية” كمشروع مؤسساتي، لا يقتصر على مبادرات فردية، بل يُصبح جزءاً من المشروع التربوي للمؤسسة، مع تخصيص فضاءات زمنية وموارد بشرية ومادية لدعمها.
على مستوى الشراكة المجتمعية والتعاون: يجب تفعيل شراكات استراتيجية مع مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة، مثل الجمعيات الفنية المتخصصة في السينما والتربية البصرية. هذا التعاون يمكن أن يثمر تنظيم مهرجانات مدرسية للأفلام القصيرة والوثائقية على المستويات المحلية والجهوية والوطنية، تعالج قضايا المواطنة، حقوق الإنسان، البيئة، وغيرها، وتشجيع مشاركة التلاميذ فيها، مع دعوة صناع الأفلام وغيرهم للمشاركة والتأطير.
– نحو جمالية تربوية ناقدة ومجتمع واع
الصورة ليست بديلاً عن الكلمة، بل هي شريكها الاستراتيجي في تشكيل الوعي. إن المدرسة التي تُدرّب التلميذ على “القراءة البصرية” للعالم هي مدرسة لا تُعطي الأجوبة الجاهزة، بل تفتح المجال واسعاً للسؤال، للتفكير النقدي، ولتعدد التأويلات. إنها مدرسة تُبصِر التلميذ العالمَ كما هو بكل تعقيداته وتناقضاته، ثم تُبَصِّره بإمكانية تغييره نحو الأفضل.
لذلك، حين نُحوّل الشاشة في فصولنا الدراسية إلى نافذة على العالم لا مجرد مرآة تعكس الواقع، فإننا نُحرر المتعلم من الاستهلاك السلبي إلى التفكير الفاعل، ومن الصمت إلى التعبير، ومن التلقي إلى النقد البناء. إن توظيف الصورة والفيلم التربوي، إذا ما استُثمرا ببيداغوجيا هادفة ومنهجية متكاملة، يمكن أن يصبحا في التعليم المغربي أداة فعالة لتحرير العقل، وغرس القيم الكونية، وتنمية الحس النقدي، لبناء مواطن فاعل وواع، وقادر على المساهمة في تشكيل مستقبل أفضل، لا مجرد إعادة إنتاج الصمت أو القبول بالواقع.
فالصورة هي الذاكرة البصرية للإنسانية، وفي المدرسة، يمكن أن تكون الذاكرة الحية لقيم العدل والكرامة والإنسانية، ودرعا واقيا في وجه التحديات القيمية والسلوكية الراهنة.