المغرب بين “غيث” السماء و”جفاف” التنمية: حين يصبح المطر كارثة ومرآة لـ “العدالة المجالية” الغائبة

16 ديسمبر 2025
المغرب
العربية.ما - أمين طاهر

يظل هطول الأمطار في المغرب، منذ سنوات الجفاف العجاف، حلما ومطلبا وطنيا بامتياز، يُرتجى منه محو غبار المعيش اليومي وشح الموارد. غير أن هذا “الغيث” المرتقب، عندما يصل، يتحول في كثير من الأحيان من رمز للحياة إلى سبب للمآسي، حاصدا الأرواح بدل أن يسقيها. هذه المفارقة القاسية ليست مجرد سوء حظ مناخي، بل هي مشهد مكشوف يفضح واقع التنمية الهشّة واختلالات البنية التحتية التي تعري المدن والقرى التي ترزح في هامش الاهتمام.

آسفي.. جرس إنذار طال رنينه

ما حدث في مدن مثل آسفي وغيرها ، والتي أغرقتها أمطار إثر صبيب لم يدم إلا دقائق معدودة، ليس سوى جرس إنذار في سلسلة طويلة من الكوارث المتكررة. إنها صرخة مدوية لا تضعنا فقط أمام هشاشة شبكات الصرف الصحي، بل أمام مرآة واقع تدبيري يبدو مستعصيا على الاستيعاب والتخطيط الاستباقي.

يجمع الفاعلون المدنيون والحقوقيون على أن الفيضانات التي تؤدي إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، لا سيما في المناطق ذات التنمية الهامشية، تكشف عن اختلالات هيكلية وجسيمة في برامج التنمية والحكامة الترابية. ويؤكد هؤلاء أن الحاجة باتت ملحة لاعتماد منطق تدبيري جديد يجعل من “الحق في السلامة والعيش في بيئة آمنة” جزءًا لا يتجزأ من الحقوق الأساسية للمواطنات والمواطنين. هذا التحول هو السبيل الوحيد لضمان ألا تظل المآسي الإنسانية “ثمناً متكرراً” لاختلالات كان يمكن تفاديها بالإرادة السياسية الصارمة والتخطيط الجيد.

التخطيط العاجز ورهان الحداثة الغائب

إن تكرار هذه الكوارث يسائل بقوة منطق الحكامة والشفافية في صرف ميزانيات البرامج التنموية المخصصة للبنية التحتية. كما يبيّن بوضوح أن التخطيط والتأهيل الحضريين لا يزالان يعتمدان على مقاربات تقليدية، متجاهلين التطورات العلمية الحديثة التي يشهدها العالم.

العدالة المجالية: الملاعب الفخمة مقابل الهشاشة الداخلية

تكتسب هذه الأزمة أبعادا أكثر عمقا حين نقارن هذا الواقع الهش بالاستعدادات الجارية لاستضافة تظاهرات كروية عالمية كبرى، مثل كأس إفريقيا للأمم. فبينما ينجح المغرب في ضخ استثمارات ضخمة لتهيئة الملاعب، والمطارات، والمنشآت الفخمة المواكبة لهذه التظاهرات، فإنه في المقابل يُخلف الوعد مع العدالة المجالية، ويثبت مرة أخرى أن تحسين “صورة المغرب” وخدمة الاستثمار الخارجي يعطيان الأولوية على حساب الاستثمار في البنية التحتية الداخلية والحياة اليومية للمواطن.

هذا التناقض الصارخ يعد إثباتا على فشل الحكومة في تنزيل وعودها، بل وفي تفعيل مضامين الخطابات الملكية الأخيرة، التي ركزت تحديدا على إيلاء المجال القروي والمناطق الهامشية “أهمية كبرى” والتشديد على مبدأ “العدالة المجالية” كرافعة للتنمية الشاملة.

إن المطر، الذي كان يجب أن يكون “غيثا”، تحول بفعل الإهمال وغياب التخطيط إلى مرآة لكوارث تدبيرية توجب مراجعة فورية ومنهجية لمنطق الأولويات في سياسات التنمية المغربية. فبناء الملاعب الفخمة لا يمكن أن يبرر إغراق المدن بأدنى قطرات مطر، و”صورة المغرب” الحقيقية يجب أن تبنى من الداخل، بضمان سلامة وكرامة مواطنيه أولا.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.