في مدينة سان بطرسبرغ التاريخية، اجتمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع كبار ممثلي دول مجموعة “بريكس” و”بريكس+” لبحث القضايا الأمنية في مرحلة حاسمة تمر بها الساحة الدولية. هذا الاجتماع لم يكن مجرد لقاء تقليدي بين قادة الدول، بل شكل فرصة لإعادة رسم خطوط القوة الجيوسياسية في ظل متغيرات متسارعة.
في ظل الضغوط الاقتصادية والسياسية من الدول الغربية، تسعى دول “بريكس” (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) لتعزيز تحالفها والانتقال إلى مرحلة جديدة تتضمن توسيع المجموعة لتشمل دولًا أخرى تحت مظلة “بريكس+”، حيث أبدت 34 دولة اهتمامها بالانضمام. فكيف تسعى “بريكس”، بقيادة روسيا، إلى مواجهة التحديات الأمنية العالمية؟ وما هي الأهداف الاستراتيجية من توسيع المجموعة؟
بوتين وخطة روسيا لـ”بريكس”: أكثر من 70% من الأهداف تحققت
خلال خطابه في الاجتماع، أعلن بوتين أن خطة رئاسة روسيا لمجموعة “بريكس” قد اكتملت بنسبة تزيد عن 70%، مشيرًا إلى أن الأنشطة التي تم تنفيذها ركزت على تسهيل الاندماج السريع للأعضاء الجدد. وعكس هذا التصريح التحول العميق في استراتيجية روسيا داخل المجموعة، حيث تسعى موسكو لتقديم نفسها كقوة قادرة على جلب الاستقرار والاندماج الاقتصادي في عالم يعاني من اضطرابات متزايدة.
وقدم بوتين خطته هذه في ظل التوترات المتزايدة بين القوى التقليدية في العالم، خصوصًا الولايات المتحدة وأوروبا. هذه التوترات تُرجمت إلى عقوبات اقتصادية وسياسية تم فرضها على روسيا، ولكن “بريكس” ظهرت كمساحة لروسيا للتنفس والعمل بعيدًا عن تلك الضغوط، وهو ما يُفسر التركيز الكبير على ضم أعضاء جدد وتوسيع نفوذ المجموعة.
الاندماج السريع للأعضاء الجدد: استراتيجية بناء تحالفات متعددة الأبعاد
انضمام دول جديدة إلى “بريكس” يعكس تحولًا محوريًا في أهداف المجموعة. حيث لم تعد “بريكس” مجرد تجمع اقتصادي فحسب، بل تحولت إلى قوة جيوسياسية متعددة الأبعاد. فإبداء 34 دولة رغبتها في الانضمام يمثل نجاحًا دبلوماسيًا كبيرًا لروسيا والدول الأعضاء الأخرى.
كما أن التركيز على الاندماج السريع يعني أن “بريكس” لا تتطلع فقط إلى تعزيز التجارة والاستثمار بين أعضائها، بل تهدف أيضًا إلى بناء تحالفات استراتيجية تشمل مختلف المجالات مثل الطاقة، التكنولوجيا، والقضايا الأمنية. وقد أشار بوتين إلى أن هذه الخطة تعزز من مكانة “بريكس” ككتلة سياسية واقتصادية قادرة على التأثير في النظام العالمي الجديد.
مواجهة التحديات الأمنية: “بريكس” على الخط الأمامي
أحد المحاور الرئيسية في ذات الاجتماع كان كيفية التعامل مع التحديات الأمنية المتزايدة على الساحة الدولية. ووفقًا لبوتين، اكتسبت “بريكس” خبرة كبيرة في هذا المجال، خصوصًا في مكافحة الإرهاب والجرائم الإلكترونية. حيث باتت هذه التحديات تشكل تهديدًا كبيرًا ليس فقط للدول الأعضاء في المجموعة، بل للعالم بأسره.
فالجريمة الإلكترونية، على وجه الخصوص، أصبحت أداة رئيسية في النزاعات بين الدول، و”بريكس” تسعى لأن تكون جزءًا من الحل من خلال تعزيز التعاون الاستخباراتي وتطوير وسائل مشتركة للتصدي لهذه الظاهرة. وأكد بوتين أن الاستجابة الفعالة لهذه التهديدات تتطلب تعاونًا وثيقًا بين الدول الأعضاء، وهو ما يعزز من أهمية توسع المجموعة لتشمل دولًا أخرى يمكنها المساهمة في هذه الجهود.
الأبعاد الجيوسياسية: ما وراء التوسيع الأمني
من الناحية الجيوسياسية، تسعى روسيا من خلال “بريكس” إلى تحقيق التوازن في النظام الدولي. توسيع “بريكس+” يتيح الفرصة لخلق كيان عالمي قادر على منافسة المؤسسات الغربية التقليدية مثل مجموعة السبع (G7) وصندوق النقد الدولي. وهذا التوسع لا يعتمد فقط على المصالح الاقتصادية، بل يتعامل مع القضايا الأمنية، الثقافية، والتكنولوجية.
وفي هذا السياق، تعكس تصريحات بوتين عن أهمية مكافحة الإرهاب والجريمة الإلكترونية تحركًا استراتيجيًا لتعزيز التعاون الأمني بين الدول الأعضاء، وهو ما قد يكون حجر الزاوية في المستقبل القريب لبناء تحالفات جديدة خارج نطاق التعاون الاقتصادي.
فالاجتماع في سان بطرسبرغ سلط الضوء على التحول العميق الذي تشهده “بريكس” تحت القيادة الروسية. كما أن توسيع المجموعة لتشمل أعضاء جدد لمواجهة التحديات الأمنية، يعزز من أهمية هذه الكتلة في المشهد الجيوسياسي العالمي. وفي ظل تحركات القوى العالمية التقليدية، تتطلع “بريكس+” لتصبح القوة الجديدة التي تقود التوازن العالمي نحو مستقبل أكثر تعددية واستقلالية.