انتصار غير مسبوق لليمين المتطرف
في ظل مشهد سياسي ألماني يزداد تعقيداً وتنوعاً، حقق حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD)، المناهض للهجرة، نجاحًا كبيرًا في الانتخابات الأخيرة في ولاية تورينجيا، حيث اقترب الحزب اليميني المتطرف من الفوز بما يقرب من ثلث الأصوات. هذا النجاح لم يكن مجرد نتيجة انتخابية عادية، بل يُعد انعكاسًا لتحولات سياسية عميقة تجري في المجتمع الألماني، ما جعل العديد من المراقبين يصفون هذا الفوز بـ “التاريخي”.
الجذور الاجتماعية والسياسية لصعود اليمين المتطرف
نشأة حزب “البديل من أجل ألمانيا” عام 2013 جاءت كرد فعل على السياسات الاقتصادية الأوروبية، وخاصة سياسة الإنقاذ المالي لليونان. ومع ذلك، تحول الحزب سريعًا ليصبح صوتًا رئيسيًا للناخبين الغاضبين من سياسات الهجرة واللجوء، التي اتبعتها المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل. وفي هذا السياق، أصبحت المناطق الشرقية من ألمانيا، التي تشهد معدلات بطالة مرتفعة نسبيًا وتوترات اجتماعية، بيئة خصبة لنمو الحزب.
تورينجيا وساكسونيا، الولايات التي شهدت نجاحًا ملحوظًا لحزب البديل، تعد من المناطق التي كانت جزءًا من ألمانيا الشرقية السابقة. هذه المناطق لم تستفد بالكامل من الازدهار الاقتصادي الذي شهدته ألمانيا بعد الوحدة، ما خلق حالة من الإحباط والتمرد ضد النخبة السياسية في برلين.
تورينجيا: قصة نجاح اليمين المتطرف
في الانتخابات التي جرت في ولاية تورينجيا، حقق حزب البديل نجاحًا فاق التوقعات، حيث حصل على ما يقرب من 32% من الأصوات، بفارق تسع نقاط عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ (CDU). هذا الإنجاز يُعد الأول من نوعه لليمين المتطرف منذ الحرب العالمية الثانية، حيث لم يسبق لأي حزب يميني متطرف أن حقق مثل هذا النجاح في انتخابات إقليمية.
ولكن على الرغم من هذا النجاح، يواجه الحزب تحديات كبيرة في تشكيل حكومة في تورينجيا. فبدون دعم من الأحزاب الأخرى، لا يستطيع حزب البديل أن يحكم بمفرده، خاصة وأن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وغيره من الأحزاب الرئيسية قد أوضحوا موقفهم الرافض للعمل مع اليمين المتطرف.
بيورن هوكي: وجه اليمين المتطرف المثير للجدل
يُعد بيورن هوكي، مرشح حزب البديل من أجل ألمانيا في تورينجيا، أحد أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في المشهد السياسي الألماني. فبينما يشيد أنصاره بشجاعته في مواجهة “النخب السياسية التقليدية”، يرى منتقدوه أنه يمثل وجهًا قبيحًا للتطرف. هوكي، الذي واجه اتهامات بترويج شعارات نازية، كان قد فشل في الفوز بولاية مباشرة لبرلمان الولاية، ولكنه قد يفوز بمقعد عبر القائمة الحزبية.
تداعيات النجاح على المشهد السياسي الألماني
هذا النجاح الكبير لحزب البديل يأتي في وقت تشهد فيه ألمانيا اضطرابات سياسية، خاصة مع اقتراب الانتخابات الفيدرالية المقررة في عام 2025. تشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب البديل يحتل المركز الثاني على المستوى الوطني، مما يثير مخاوف من تحوله إلى قوة سياسية رئيسية قد تؤثر بشكل كبير على تشكيل الحكومة المستقبلية.
زعيمة الحزب، أليس فايدل، وصفت النتائج بأنها “قداس” للأحزاب الثلاثة التي تشكل الائتلاف الحاكم الحالي: الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD)، وحزب الخضر، والحزب الديمقراطي الحر (FDP). وأكدت أن الناخبين في الولايات الشرقية يريدون رؤية حزبها في الحكومة، مشيرة إلى أن الحكومة المستقرة لم تعد ممكنة بدون مشاركة حزب البديل.
التحالفات المستقبلية: معضلة الديمقراطيين المسيحيين
إن صعود حزب البديل يضع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) أمام معضلة كبيرة. فبينما تشير الأرقام إلى أن الحزبين معًا يمكن أن يشكلا حكومة في بعض الولايات، إلا أن التعاون مع اليمين المتطرف لا يزال خطًا أحمر بالنسبة للديمقراطيين المسيحيين. هذا الموقف قد يؤدي إلى تعقيد الجهود الرامية إلى تشكيل حكومات مستقرة في بعض الولايات، مما قد يدفع الحزب إلى التعاون مع أحزاب اليسار، وهي خطوة قد لا تحظى بقبول جميع أعضاء الحزب.
الانعكاسات الاجتماعية: هل تتجه ألمانيا نحو الاضطراب؟
لا تقتصر تداعيات صعود حزب البديل على السياسة فقط، بل تمتد لتشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية في البلاد. فمع تزايد شعبية اليمين المتطرف، تعبر شخصيات بارزة مثل شارلوت نوبلوخ، الناجية من المحرقة النازية، عن قلقها من أن هذه التحولات قد تجعل ألمانيا أكثر “عدم استقرارًا وأكثر برودة وأقل أمانًا”. هذه المخاوف تجد صداها في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، حيث يُنظر إلى صعود اليمين المتطرف كتهديد للنسيج الاجتماعي في ألمانيا.
مستقبل ألمانيا على المحك
مع اقتراب الانتخابات الفيدرالية، يبدو أن حزب البديل من أجل ألمانيا سيظل لاعبًا رئيسيًا في السياسة الألمانية. نجاحاته الانتخابية الأخيرة في تورينجيا وساكسونيا تشكل تحديًا كبيرًا للنخب السياسية التقليدية، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة قد تشهد تحولات جذرية في شكل الحكومة الألمانية وسياساتها الداخلية والخارجية.
فالسؤال الكبير الذي يواجه ألمانيا الآن هو: هل سيتمكن النظام السياسي الألماني، الذي يعتمد على التوافق والتعاون بين الأحزاب، من استيعاب هذا التحدي الجديد دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات سياسية واجتماعية؟ فقط الزمن سيكشف لنا الإجابة.