أثارت محكمة “بريك كورت” البريطانية، في لندن، وفي خطوة قانونية غير مسبوقة، جدلًا واسعًا بعد إصدارها رأيًا قانونيًا يعترف بوجود شعب القبائل ككيان مستقل، ويُقرّ بحقهم في تقرير المصير. هذا الإعلان جاء بعد مشورة قانونية طلبتها “الحركة من أجل تقرير مصير القبائل” المعروفة اختصارًا بـ”الماك”، وهي حركة تسعى إلى استقلال منطقة القبائل عن الدولة الجزائرية. فما هي تفاصيل هذا الرأي القانوني؟ وما هي تداعياته على الساحة الإقليمية والدولية؟
أولًا: السياق التاريخي والسياسي للقبائل:
تعود جذور النزاع بين الحكومة الجزائرية وحركة “الماك” إلى عقود طويلة، حيث تسعى منطقة القبائل، وهي منطقة تقطنها أكبر مجموعة أمازيغية في الجزائر، إلى الحصول على مزيد من الحكم الذاتي أوالاستقلال التام. وتمتاز القبائل بتراث ثقافي ولغوي مميز، حيث يتحدث شعب القبائل لهجة أمازيغية خاصة تختلف عن اللهجات الأمازيغية الأخرى، ما يعزز من شعورهم بالخصوصية والهُوية المتميزة.
وفي السنوات الأخيرة، تصاعدت حدة التوترات بين القبائل والحكومة الجزائرية، خاصة مع الاتهامات المتكررة للحكومة الجزائرية بتهميش المنطقة وقمع الحركات الداعية إلى استقلالها. وجاء تأسيس حكومة القبائل في المنفى بقيادة “فرحات مهني” ليزيد من تعقيد المشهد، حيث أصبح الصراع يكتسب طابعًا دوليًا.
ثانيًا: الرأي القانوني لمحكمة “بريك كورت”:
استندت محكمة “بريك كورت” في رأيها إلى القانون الدولي، خصوصًا المادة الأولى المشتركة من العهدين الدوليين لعام 1966 الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. تلك المواد تُقرّ بشكل واضح بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
وأوضحت المحكمة في رأيها القانوني أن هناك سؤالين أساسيين يُحددان ما إذا كان للشعب القبائلي الحق في تقرير المصير.
السؤال الأول: هل القبائليون يشكلون شعبًا بموجب القانون الدولي؟ وهنا، أكدت المحكمة أنهم بالفعل يشكلون شعبًا، بناءً على مجموعة من العوامل بما في ذلك الوحدة اللغوية، الثقافة المتميزة، والارتباط الإقليمي.
أما السؤال الثاني فهو: هل يحق لهم بموجب القانون الدولي تقرير مصيرهم؟ وهنا أيضًا جاء الجواب بالإيجاب، إذ أشارت المحكمة إلى أن حق تقرير المصير هو حق إنساني للشعوب وفقًا لميثاق الأمم المتحدة والعديد من الصكوك الدولية الأخرى.
ثالثًا: تداعيات القرار على الساحة الدولية:
يمثل هذا الرأي القانوني تحولًا كبيرًا في تعامل المجتمع الدولي مع قضية القبائل، وقد يشجع حركات أخرى تسعى إلى الاستقلال أوالحكم الذاتي على تقديم طلبات مشابهة لمحاكم دولية.
وفي هذا السياق، يُعتبر القرار إشارة قوية إلى الحكومات المركزية في العديد من الدول التي تضم شعوبًا تطالب بالاستقلال أوالحكم الذاتي. فقد أكدت المحكمة أن لا حاجة إلى تعريف دقيق لـ”الشعب” في القانون الدولي، مما يمنح الحركات الانفصالية مرونة أكبر في تقديم مطالبها.
وعلى الصعيد الجزائري، من المتوقع أن يؤدي هذا التطور إلى تصعيد التوتر بين الحكومة الجزائرية وحركة “الماك”. فالجزائر ترفض بشدة أي محاولة للانفصال وتعتبر قضية وحدة البلاد خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه. وسبق أن أصدرت السلطات الجزائرية مذكرات توقيف دولية بحق قادة “الماك”، متهمة إياهم بالإرهاب والتآمر ضد الدولة.
رابعًا: ماذا بعد؟ السيناريوهات المحتملة:
1.تصعيد داخلي في الجزائر: من المتوقع أن يشهد المشهد الداخلي الجزائري تصعيدًا سياسيًا وأمنيًا في حال استمر قادة “الماك” في استغلال الرأي القانوني لمحكمة “بريك كورت” للترويج لقضيتهم. قد يؤدي ذلك إلى مواجهات مع السلطات أوحتى احتجاجات واسعة في منطقة القبائل.
2.ضغوط دولية على الجزائر: مع اعتراف محكمة دولية بحق القبائل في تقرير المصير، قد تتزايد الضغوط الدولية على الحكومة الجزائرية، سواء من قبل المنظمات الحقوقية أوحتى الدول التي تدعم مبدأ تقرير المصير. وهذا الأمر قد يضع الجزائر في موقف حرج أمام المجتمع الدولي.
3.حل تفاوضي؟: في المقابل، قد يفتح هذا الرأي القانوني الباب أمام الجزائر وحركة “الماك” للدخول في مفاوضات جدية حول مستقبل منطقة القبائل. فالحل التفاوضي قد يكون السبيل الوحيد لتجنب تصعيد أكبر.
ختامًا: يُعد الرأي القانوني لمحكمة “بريك كورت” بشأن حق القبائل في تقرير المصير خطوة هامة في مسار القضية القبائلية، إلا أن الطريق نحو تحقيق استقلال القبائل لا يزال مليئًا بالتحديات. ففي ظل الرفض الجزائري القاطع لأي حديث عن الانفصال، والتعقيدات الجيوسياسية التي تحيط بالمنطقة، يبقى السؤال: هل ستنجح القبائل في تحقيق طموحاتها السياسية؟ أم أن القضية ستظل مجرد ورقة أخرى في لعبة التوازنات الدولية؟