حين يسمع المواطن عبارة «الصفقة العمومية» يتخيل إعلانا عن منافسة لاختيار عرض لتنفيذ أشغال أو خدمة أو توريد . هذا صحيح، لكنه لا يغطي كل الطرق التي تنفق بها الإدارة المال العام عبر التعاقد مع الخواص . فالقوانين المغربية تتحدث أيضا عن «الطلبيات العمومية»، وهو مصطلح أوسع و أشمل. الإشكال يبدأ من هنا: أين تنتهي «الصفقات العمومية » وأين تبدأ «الطلبيات العمومية »؟
ينص الدستور في فصله 36 على قاعدة قانونية .. عامة مضمونها : مكافحة الفساد وتعارض المصالح، وضمان نزاهة «إبرام الصفقات العمومية وتدبيرها».
والدستور لا يفصل في المساطر، بل ين ينظم المبادئ العامة : ومن ذلك أي إنفاق تعاقدي تعلوه الشفافية وتكافؤ الولوج والمنافسة المشروعة. صحيح أن استعمال لفظ «الصفقات» أضيق من واقع التعاقد العمومي اليوم، لكن القراءة المقاصدية تسمح بفهمه كعنوان جامع للإنفاق التعاقدي الذي تصان فيه تلك القيم.
على المستوى التنظيمي، وسعت السلطة التنظيمية الرؤية. فمرسوم 2.14.867 لسنة 2015 المتعلق باللجنة الوطنية للطلبيات العمومية يستعمل «الطلبيات العمومية» ليشمل ثلاث فروع كبرى: الصفقات العمومية، وعقود التدبير المفوض، وعقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص. أما مرسوم الصفقات العمومية 2.22.431 لسنة 2023 فيفصل مساطر الإبرام أساسا، ويعرف فئة مميزة هي «العقود أو الاتفاقيات الخاضعة للقانون العادي» التي لا تعامل كصفقات ولا تدخل—كأصل—ضمن الطلبيات العمومية ، مع إلزام شكلي بالنشر السنوي لعددها ومبالغها تعزيزا للشفافية. 
وهنا تحديدا يلزم بيان الإطارين القانونيين الموازيين: فـ«قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص» (القانون 86.12 كما عدل وتمم بالقانون 46.18) يعرف باعتباره عقدا محدد المدة تسند بموجبه شخصية عامة إلى شريك خاص مهمة شاملة قد تشمل التصميم، والتمويل كليا أو جزئيا، والبناء أو التأهيل، والصيانة و/أو الاستغلال، مع ربط الأداءات بالمردودية وجودة الخدمة. أما «قانون التدبير المفوض» (القانون 54.05) يتيح تفويض تسيير مرفق أو منشأة عمومية لمدة محدودة، مع تحمل المفوض جانبا جوهريا من المخاطر مقابل تعويض.
ولهذا – بحسب زعم المدافعون عن هذا الطرح- ينظم النمطان بقانون لأنهما يمسان تنظيم المرفق العام وحقوق المرتفقين ويرتبان التزامات مالية وبنيوية ممتدة تتصل بالمجال المحفوظ للقانون وفق الفصل 71، بينما تترك قواعد مساطر الإبرام والتنفيذ المرتبطة بهما—بحكم طابعها التقني وحاجتها إلى المرونة—للنصوص التنظيمية (مراسيم).
تظهر التجارب الدستورية المقارنة أن حسن اختيار الألفاظ يختصر كثيرا من الجدل. فكينا في المادة 227، وجنوب أفريقيا في القسم 217، اختارتا عبارة «التعاقد/المشتريات العمومية» وربطتاها مباشرة بمبادئ العدالة والإنصاف والشفافية والتنافسية والجدوى. المكسيك في المادة 134 تتحدث عن «اقتناءات وأشغال وخدمات» وتربطها بحسن إدارة الموارد، بينما يقرر دستور البرازيل (المادة 37 فقرة 21) قاعدة المناقصة كأصل للتعاقد العمومي. وفي البيرو والإكوادور نجد لغة تسمي «المشتريات العمومية» وتربطها بمعايير الكفاءة والجودة والمسؤولية. دول أخرى تنظم الأمر بطريق غير مباشر: الهند تحدد الشكل الدستوري لعقود الدولة دون الخوض في مبادئ المنافسة، وإسبانيا تسند للدولة التشريع الأساسي في العقود والتفويضات الإدارية ضمن توزيع الاختصاصات. القاسم المشترك بين النماذج “الناجحة” هو تفضيل مصطلحات جامعة («المشتريات/الطلب العمومي») تثبت المبادئ، وتترك التفاصيل للقانون.
من جهة أخرى معنى «القانون العادي أو الاتفاقيات» في مرسوم الصفقات العمومية عملي وبسيط: تعاقدات بأسعار وشروط معيارية يمليها السوق ولا تملك الإدارة تعديلها حالة بحالة، كاشتراكات وخدمات موحدة. هذه الطبيعة تجعلها خارج مساطر المنافسة التفصيلية. وفي المقابل، متى وجدت حاجة عمومية تتطلب المفاضلة بين عروض في سوق تنافسية، يصار إلى مساطر الصفقات ضمن منظومة الطلبيات العمومية.
يبقى السؤال العملي: هل نحتاج إلى مراجعة دستورية لتبديل اللفظ علما أن فهم التعاقد مع القطاع الخاص يتطور بشكل دائم ؟ ليس هذا شرطا لسلامة المنظومة. يمكن تثبيت اتساع المفهوم بتأويل مبدئي للفصل 36 يضع «الصفقات العمومية » تحت مظلة الطلبيات العمومية في مفهومها الواسع، لكن أساسا مع استكمال البناء التشريعي بمدونة موحدة لها يضبط القواعد الأفقية المشتركة: تعريف الحاجة والحياد التقني، التعليل الإلزامي، النشر الاستباقي للبيانات في صيغ مفتوحة، وآجال معقولة للتظلم والبت، ونظام واضح لضبط تضارب المصالح ومراقبته. كما يفيد اعتماد مصطلح موحد («الطلبيات العمومية » أو «المشتريات العمومية») في كل النصوص والسياسات لتفادي التباس اصطلاحي يربك التطبيق.
خلاصة القول: «أزمة التعريف القانوني» لا تحل بتبديل كلمة في رأس الهرم فقط، بل بتوحيد اللغة على امتداد النصوص، وبتقوية الجسر بين المبدأ والممارسة. متى اتضح أن مرجعنا هو: الدستور للقيم، ومرسوم 2015 لتحديد نطاق الطلبيات العمومية، ومرسوم 2023 لمساطر إبرام الصفقات وضوابط الشفافية و مراسيم أخرى -على علتها- لتتبع تنفيذها، صار السؤال اليومي بسيطا ومفيدا: هل هذه العملية إنفاق تعاقدي يستوجب منافسة وتعليلا ونشرا وحق طعن؟ إذا كان الجواب نعم، فنحن أمام صفقة ضمن منظومة الطلبيات العمومية ، بصرف النظر عن التسمية. بهذه البساطة تصان الثقة، ويرى المال العام في أثر عمومي نافع ومكشوف الحساب.
