تمكنت لعبة روبلوكس من التحول إلى ظاهرة جارفة الشعبية في وقت قياسي، إذ نمت مبيعاتها في 4 أعوام لتتخطى 3.5 مليارات دولار، وفق بيانات الشركة، مع عدد لاعبين نشيطين يوميًا يتخطى 68 مليون لاعب بدلًا من 0.5 مليار دولار و17 مليون لاعب يوميًا في 2019.
النجاح الجارف الذي تمكنت لعبة روبلوكس من الوصول إليه لم يكن بسبب المجهود المضاعف الذي بذلته الشركة، بل يعود الفضل فيه إلى جهود مطوري الألعاب داخل عالم اللعبة، إذ لا ينضب المحتوى الموجود باللعبة والأطوار المختلفة به، فضلًا عن توجه اللعبة بكامل أرجائها لجذب جمهور من السهل التأثير فيه، وهو جمهور الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم 13 عامًا.
بفضل هؤلاء الأطفال، تمكنت لعبة روبلوكس من تحطيم الأرقام القياسية والنمو إلى مستويات جديدة عبر السنوات الماضية وتحديدًا في عام الوباء، إذ جذبت المزيد من الأطفال الذين وجدوا فيها متنفسًا بعيدا عن الحدائق والمنتزهات العامة التي يحظر عليهم الخروج إليها.
يحمل النمو المذهل الذي حققته لعبة روبلوكس جانبًا مظلمًا للغاية، حيث يقبع في غياهب عوالمها وبين جحافل الأطفال المشاركين فيها مجموعة من أخطر المجرمين، وهم المعتدون على الأطفال والذين وجدوا في سياسات روبلوكس وأسلوب اللعب الخاص بها نبعًا لا ينضب من الضحايا الغافلين عن الخطر المحيط بهم، وتحولت اللعبة من عالم يمكن أن يحدث فيه أي شيء إلى شبكة مظلمة من التجارة بالأطفال والاعتداء عليهم مقابل العملات الرقمية الوهمية التي تقدمها اللعبة تحت اسم “روبكس” (Robux).
لعبة روبلوكس ساحة للاعتداء على الأطفال دون رقيب
“أي شيء نظير روبوكس”، هكذا قالت طفلة تبلغ من العمر 8 أعوام لأحد اللاعبين الذين حوّلوا آلاف الدولارات إليها نظير مجموعة من 20 صورة مخلة تظهر فيها الطفلة، ورغم أن الطفلة لم تدرك خطورة ما تفعله، إذ كانت تبحث فقط عن “روبكس”، فإن الطرف الآخر في هذه العملية، وهو كلينتون ماكلروي البالغ من العمر 48 عامًا ومسجل على قائمة المعتدين على الأطفال في ولاية كانساس، كان يدرك ما يفعله جيدًا، وهو الأمر الذي أظهره تقرير الشرطة عندما تم القبض عليه.
وعبر آلية مماثلة، قام شين باتريك بينزاك البالغ من العمر 45 عامًا والمقيم في فلوريدا، بإقناع طفل يبلغ من العمر 13 ربيعًا بإرسال مئات الصور المخلة نظير آلاف الدولارات على شكل عملة روبكس، ولكن بدلًا من تحويل العملات إليه أو إرسالها عبر بطاقات الهدايا، حصل بينزاك على كلمة المرور لحساب الطفل ليقوم بالإيداع بنفسه بشكل دوري، بالطبع استغل بينزاك هذا الحساب للوصول إلى المزيد من الأطفال والإطلاع على رسائل الطفل إلى أصدقائه.
وبينما تنتشر قصص الاعتداء على الأطفال عبر لعبة روبلوكس، تبرز قصة واحدة أكثر من غيرها، وهي أسطورة “دكتور روفاتنيك” (doctorRofatnik) الذي تمكّن من بناء واحدة من أنجح الألعاب داخل روبلوكس، وحصل على مكافأة من الشركة بلغت 40 ألف دولار، قبل أن يتم القبض عليه بسبب خطف طفلة والاعتداء الجنسي عليها في منزله.
عمد “دكتور روفاتنيك” إلى تطوير لعبة خاصة به داخل عالم لعبة روبلوكس مقتبسة من ألعاب “سونيك” (Sonic) الشهيرة على منصات “سيغا” (Sega) تحت اسم “سونيك إيلكبس أونلاين” (Sonic Eclipse Online)، وهي إحدى أنجح الألعاب المطورة باستخدام لعبة روبلوكس، إلى درجة أن “دكتور روفاتنيك” كان يتصدر قائمة المطورين ذوي المكافآت الأكبر من روبلوكس.
بالطبع لم يكن اسم “دكتور روفاتنيك” إلا قناعًا مستعارا يشير إلى الشخصية الشريرة في عالم “سونيك”، وبينما كان الشخص القابع خلف هذا القناع يشير لنفسه تحت اسم جادون شيدلتسكي مطور الألعاب الذي جاوز 28 ربيعا ويحظى بحياة ناجحة للغاية يقود فيها سيارته الرياضية الفارهة إلى جانب صديقته الفاتنة على شواطئ كاليفورنيا. يذكر أن هذا الشخص كان يدعي أنه شقيق جون شيدلتسكي الذي كان أحد أساطير اللعبة ومخرجها الإبداعي لمدة طويلة.
عبر هذه الشخصية المركبة، استطاع شيدلتكسي بناء هوية رقمية فريدة من نوعها تمكنت من جذب الأطفال من مختلف الأعمار حوله بشكل مستمر، إذ كان شخصًا مرحًا لا يخشى المزاح عبر نكات خادشة للحياء، إلى جانب تحدي السلطات وخرق التابوهات (المحرمات) المجتمعية، مما جعله قدوةً لكل مراهق لا يتجاوز عمره الـ15 ربيعًا، ويظن أنه ملك الكون في راحة يديه. وقد ساهم سخاء شيدلتسكي في جذب الأطفال إليه، إذ كان يملك شركة متكاملة داخل عالم لعبة روبلوكس تحوي العديد من الموظفين الذين يديرون لعبته ويحصلون على آلاف الـ”روبكس” نظير جهودهم.
ومن أجل إدارة هذه الإمبراطورية الأسطورية، كان شيدلتسكي يصطفي اللاعبين ليرسلهم إلى خوادم “ديسكورد” (Discord) الخاصة به، وهي خدمة دردشة شهيرة بين معشر اللاعبين، وهناك كان شيدلتسكي يتحدث كما يرغب في غياب منقحات النص الخاصة بلعبة روبلوكس، ويبني إمبراطوريته للاعتداء على الأطفال شيئًا فشيئا بعيدًا عن أنظار إدارة اللعبة.
وفي عام 2022 وتحديدًا عشية 11 مايو/أيار الماضي، تم القبض على الشخص الحقيقي الذي يقف وراء شخصية “دكتور روفاتنيك” عقب خطفه واعتدائه على طفلة تبلغ من العمر 13 عامًا بعد أن اقنعها بأنه واقع في غرامها ولا يستطيع العيش بعيدًا عنها، بالطبع لم يكن “روفاتنيك” كما وصف نفسه سابقًا، فضلًا عن أن شخصية “جاون شيدلتسكي” ثبت عدم وجودها في العالم الحقيقي، حيث كانت اسما مستعارًا يقف وراءه أرنولد كاستيلو البالغ من العمر 22 عامًا.
الوصول إلى كاستيلو لم يكن هنيًا على الإطلاق، إذ أمضى شهورًا يتحدث مع الضحية ويرسل لها الهدايا عبر عناوين وهمية وباستخدام بطاقات بنكية وهمية وتحت نظر والدي الضحية، الذين ظنوا أن “شيدلتكسي” يساعد فتاتهم في التحول إلى فنانة محترفة والدخول إلى عالم تطوير الألعاب المربح للغاية.
تطلب القبض على كاستيلو جهود المحققة في شرطة ولاية إنديانا والمختصة بجرائم الاعتداء الجنسي ستايسي هينشو، فضلًا عن محققة “إف بي آي” وعضوة فريق الاستجابة السريعة لخطف الأطفال لين روثرميتش، وعبر تعاون مثمر بين الجهتين والعديد من المطالبات لشركة روبلوكس و”ميتا” تمكنوا من الوصول إلى سجل الرسائل بين الطفلة وكاستيلو حيث حاول إقناعها مرارًا بكونها أميرة بالغة وليست طفلة صغيرة.
اعترف كاستيلو بجميع التهم الموجهة إليه، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة 15 عامًا، ورغم أنه أصبح قابعًا خلف القضبان في موقع لا يستطيع الوصول منه إلى أي طفل، فإن الكارثة التي تشكلها روبلوكس لم تنتهِ بعد.
شعبية جارفة ومخاوف الاعتداء على الأطفال
تشارك شركة روبلوكس دومًا أرقامًا مبهرة حول عدد اللاعبين بها يوميًا والعائدات منهم، فضلًا عن حجم الألعاب الموجودة بداخلها كعادة الشركات من أجل ترويج نفسها وجذب المستثمرين لتحقيق المزيد من النمو، ولكن هذه الأرقام عادةً ما تهمل عدد الأطفال والمراهقين بين قاعدة جماهير اللعبة.
ومن أجل إدراك حجم الخطر الذي تمثله روبلوكس، فإن مؤسسة جمعية الأمان على وسائل التواصل الاجتماعي كيرا بندرجاست توجهت إلى مدرسة في قرية صغيرة بأستراليا، حيث جمعت 75 طالبًا من المرحلة الابتدائية، ووجهت إليه مجموعة من الأسئلة التي تعكس حجم الكارثة.
“من منكم يلعب روبلوكس؟”، افتتحت بندرجاست جلستها بهذا السؤال ليرفع 60 من أصل 75 طفلا أياديهم في نسبة تتخطى 80% من إجمالي الأطفال، تابعت بندرجاست أسئلتها “من حصل على طلب ليصبح صديقا أو صديقة لشخص لا يعرفه في روبلوكس؟” لتأتي الإجابة من 12 طالبًا، وفي اختتام الأسئلة، طلبت بندرجاست من الأطفال أن يرفعوا أيديهم إذا حصلوا على “روبكس” نظير أفعال مشينة داخل اللعبة، لتأتي الإجابة على شكل طفلين.
يمكن الوصول إلى هذه الجلسة بسهولة عبر موقع الجمعية، حيث توجد مقطاع فيديو مسجلة لها، ورغم فظاعة نتائجها، فإنها تعكس جزءًا من الخطر الذي تمثله اللعبة، إذ يحصل جحافل من الأطفال على رسائل تطلب منهم التوجه إلى المنصات الأخرى للتحدث بحرية أكبر.
في تجربة قامت بها صحفية في “بلومبيرغ” ونشرت لاحقًا في تقرير خاص بالصحيفة، ظهرت الحقيقة المرّة للخطر الذي تمثله روبلوكس، إذ بنت الصحفية حسابا جديدا لطفل ذي 4 أعوام، وتوجهت إلى إحدى الألعاب المتاحة للأطفال فقط والمحبوبة داخل روبلوكس، وفي ثوان معدودة جذب أحد المعتدين الذي طلب منها الانتقال إلى منصة “سناب شات” ليتبادلا أطراف الحديث ويبدأ علاقة رومانسية خارج اللعبة، رغم أن الصحفية أشارت أكثر من مرة إلى كونها طفلة تبلغ من العمر 4 أعوام فقط، ليجيب المعتدي بأن العمر هو رقم لا يشير إلى أي شيء.
يمكن الوصول إلى روبلوكس بسهولة عبر أي هاتف محمول أو منصة ألعاب أو حتى حاسوب شخصي مهما كانت مواصفاته، ورغم أن إدارة الشركة كانت تدعي أنها تحاول جاهدة حماية الأطفال واللاعبين بداخلها، فإن التصرفات والقوانين التي تضعها لا تعكس هذا الادعاء.
معضلة قانونية
تجبر قوانين حماية الاعتداء على الأطفال في لعبة روبلوكس على ألا تجمع أي بيانات حقيقية عن الأطفال المشاركين فيها، لذا لا يمكن التأكد من أي معلومات حقيقية حول المشاركين داخل اللعبة، ولأن اللعبة تركز على الأطفال بشكل أساسي، فإنها لا تملك نظام تأكد من الهوية أو توثيقا ثنائي الخطوات مثل بقية الألعاب ومنصات التواصل الاجتماعي، فضلًا عن كونها تضم العديد من العوالم الموجهة للأطفال بشكل أساسي.
أزمة الاعتداء على الأطفال في لعبة روبلوكس
ولا تعد أزمة المعتدين على الأطفال في لعبة روبلوكس أمرًا جديدا، إذ كانت ملازمة للعبة منذ بدأت في تحقيق نجاحها عام 2019 وحتى اليوم، لذا تشير التقارير إلى تلقي الشركة 13 ألف بلاغ حول اشتباه في محادثات جنسية ضمن خوادمها.
وبعد قضية كاستيلو الشهيرة، تنبهت الشركة لهذا الخطر، وبدأت في تطبيق سياسات أكثر صرامة وتعزيز فرق حماية الأطفال والاستجابة السريعة ضمنها، وذلك بعكس ما كان يحدث في الماضي، ووفق تقرير بلومبيرغ وحديث أحد موظفي الشركة معه، إذ قال إن الشركة لا تملك إلا 3 آلاف مراقب لمراجعة الرسائل والبلاغات مقارنةً بـ40 ألف مراقب في “تيك توك”.
تحدثت بلومبيرغ في تقريرها مع أكثر من 20 موظفا بالشركة، أجمعوا على أن الشركة لا تبذل الجهود الكافية لحماية الأطفال، وتعزز استقالة أحد مديري المراقبة في الشركة هذا الموقف، إذ وضح أن سبب الاستقالة كان رفض الشركة توظيف المزيد من المراقبين بعد تلقيهم آلاف البلاغات بشكل لا يمكنهم من فحصها جميعًا.
أشار جزء من العاملين السابقين في الشركة إلى أن الإدارة كانت ترفض تطبيق آليات لحماية المستخدمين مثل التنبيهات التي تظهر بشكل مستمر أو الاستثمار في آلية ذكاء اصطناعي قادرة على اكتشاف حالات الإساءة والاعتداء قبل حدوثها.
هذا القصور دفع مجموعة من محبي اللعبة إلى بناء رابطة من حراس الأمن يعملون باستمرار للبحث عن المعتدين وإبلاغ الشركة عنهم، وفي مقدمة هذه الرابطة يأتي بن سايمون، وهو أحد صناع المحتوى في “يوتيوب” الذين نشؤوا وتربوا داخل عوالم روبلوكس، وعبر منصته في يوتيوب شارك العديد من حالات الاعتداء على الأطفال قبل حدوثها، ومن ضمنهم كان حالة “دكتور روفاتنيك” قبل إلقاء القبض عليه.
لم تأخذ بلاغات سايمون وأي فرد ضمن رابطته بشكل جاد، ربما لأن سايمون من الشخصيات المثيرة للجدل والتي تؤمن بنظريات المؤامرة ولا تبعث على الطمأنينة، فضلًا عن هجومه المستمر على إدارة الشركة وسياستها المختلفة.
في نهاية عام 2021، رفعت شركة روبلوكس قضية على سايمون متهمةً إياه بتشويه سمعة الشركة والتأثير السلبي على أسهمها، فضلًا عن بناء عصابة إلكترونية تشبه الطوائف الدينية داخل عالم اللعبة، بالطبع لم تكتف الشركة بتوجيه هذه التهم فقط، بل طالبت بتعويض بلغ 1.6 مليون دولار، ولاحقًا قام سايمون بتسوية هذه القضية مع الموافقة على دفع 150 ألف دولار تعويضا والتوقف عن الحديث عن اللعبة وسياستها، ويذكر أن فريق سايمون تمكن من الوصول إلى اسم وهوية “دكتور روفاتنيك” الحقيقية قبل وصول السلطات إليها بأكثر من عامين تقريبًا.
وماذا بعد؟
لا يوجد شك في أن روبلوكس هي إحدى أكثر الألعاب انتشارًا على سطح الأرض حتى دون النظر إلى البيانات والأرقام الرسمية التي نشرتها الشركة، إذ يمكن الجزم بأن كل أسرة تملك طفلًا يمارس اللعبة أو تعرف طفلًا في محيطها يمارسها.
وبفضل هذا الانتشار، فإن المناشدات بحظر اللعبة أو حذفها أو تطبيق سياسة رقابة أكثر صرامة داخلها لن تكون مفيدة ولن تلقى آذانا صاغية لدى إدارة لعبة روبلوكس التي يسعى مؤسسها ديفيد باسزوكي إلى الوصول لأكثر من مليار لاعب يوميًا.
لذا فإن الحل في هذه المعضلة يكمن في مراقبة الأطفال بشكل فعال ومناسب حتى يكتشف الآباء ما يحدث داخل عالم هذه اللعبة من أجل منع الاعتداء على الأطفال قبل حدوثه، فالوقاية دومًا أفضل من العلاج.