حين يُعيَّر الفكر بالشهادة.
في عالمٍ يُقدَّم فيه الصك الأكاديمي على الشجاعة الفكرية، وتُعلَّق فيه النياشين على الأكتاف لا على العقول، لا عجب أن يُطارد رشيد أيلال بتهمةٍ من نوع خاص: “قلة المستوى الدراسي”. تهمة قد تبدو بريئة في ظاهرها، لكنها تخفي خلفها كهوفًا من الخوف، ورغبةً دفينة في إخراس صوتٍ خرج من خارج الأسوار.
فالرجل، الذي فتح أبواب السؤال على نصوصٍ ظلت قرونًا تُقدَّس بلا مساءلة، لم يُغضب خصومه فقط بما قاله، بل بما جرؤ على قوله دون “إجازة” من أحد. لم يطرق أبواب الأزهر، ولم يحمل ختم الزيتونة، ولم يتتلمذ على شيخ في رباط أو فناء جامع، ومع ذلك ـ أو ربما بسبب ذلك ـ تجرأ على طرح السؤال الكبير: هل كل ما نُسب إلى النبي حق؟
شهادة الفكر أم شهادة المؤسسة؟
في مواجهة أفكاره، لم يُفتح حوار، بل فُتحت دفاتر حياته الشخصية: “من أنت؟ ما شهادتك؟ ما درجتك؟”، وكأن الحقيقة لا تُنتزع بالحجج، بل تُمنح بإجازة مختومة من هيئة أو عمامة.
لقد نُسيت القاعدة البسيطة: الفكر لا يُفحص بالسيرة الذاتية، بل بالمنهج والدليل.
فهل يُمكن أن نرفض برهانًا لأنه خرج من فم مزارع؟ وهل نقبل باطلًا لأنه خرج من دكتور؟
إن في تاريخ الفكر البشري فلاسفة لم تطأ أقدامهم مدرجات الجامعات، ولكنهم غيّروا مصائر أجيال. سقراط لم يعلّق شهادة على جدار، والمسيح لم يتخرج من مدرسة فقهية، ومحمد ـ الذي يدّعي خصوم أيلال الدفاع عنه ـ وُصف بأنه “أمي”، ومع ذلك، يُبنى الدين كله على قوله.
الحجة الغائبة
لم يقم أعداء أيلال بتفنيد كتبه بالحجج، لم نقرأ ردًا علميًا يُبطل ما جاء في “صحيح البخاري: نهاية أسطورة”، لم نجد مقالة تضع حديثًا مقابل حديث، ومنهجًا مقابل منهج، بل وجدنا سيلًا من الاتهامات: “جاهل”، “مفلس”، “باحث فايسبوكي”.
ولأن العاجز عن الرد، يردّ على صاحب الفكرة لا على الفكرة نفسها، صوّبوا سهامهم لا إلى أفكاره، بل إلى شهاداته.
هكذا يُنتقم من السؤال
رشيد أيلال لم يكن مشكلة لأن كتبه صادمة، بل لأن سؤاله أعاد توزيع السلطة: لم تعد الكلمة حكرًا على أصحاب العمائم، ولم تعد الحقيقة وقفًا على المختصين. لقد تسلل من خارج “النسق”، وقال ما لا يُقال، فكان لا بد من وصمه.
وأخيرًا…
إذا كانت الشهادة الأكاديمية شرطًا للحقيقة، فهل يعني ذلك أن الجهل المقدس، حين يصدر من صاحب عمامة، أصدق من سؤال جريء يصدر من شخص بسيط؟
رشيد أيلال لا يحتاج إلى شهادة ليكتب، بل الذين يهاجمونه هم من يحتاجون إلى شجاعة ليقرؤوا.