سقوطٌ من أعلى… ومجتمع في الأسفل

21 يونيو 2025
سقوطٌ من أعلى… ومجتمع في الأسفل
الطالب الباحث مصطفى أيت كوبلا

“حين يسقط الجسد، يكون المجتمع قد سقط قبله… فقط لم يسمع صوت الارتطام.”

 

 

مصطفى أيت كوبلا

شهدت مدينة طنجة حادثة مأساوية تمثلت في “سقوط غامض” لطبيبة شابة من علو شاهق، قرب مستشفى محمد الخامس، في مشهد صادم اختزل مأساة نفسية واجتماعية في لحظة سقوط واحدة.

هذه الحادثة ليست مجرد “خبر”، بل نص درامي واقعي يستدعي قراءة سوسيولوجية تنطلق من سؤال بسيط: من الذي سقط فعلاً؟ الجسد أم المجتمع؟

 

 أولاً: بين السقوط الفردي والانهيار الجماعي

 

في تحليلنا المتواضع، لا يُنظر إلى السقوط كحادثة معزولة، بل كرمز لسقوط أوسع:

سقوط المؤسسات التي لم تحتوِ النفس، وسقوط المعنى في حياة فرد ظاهريًا “ناجح” يبحث عن دلالة لوجوده.

 

الطبيبة، المرأة الشابة، داخل فضاء طبي، كانت تعاني صمتًا لا يسمعه أحد، وضغوطًا لا يراها أحد، إلى أن اختار جسدها أن “ينطق” بالسقوط.

 

ثانيًا: من إميل دوركايم – الانتحار ليس فرديًا

 

في كتابه الكلاسيكي Le Suicide، يؤكد إميل دوركايم أن الانتحار فعل اجتماعي بامتياز، تحكمه درجات الاندماج في المجتمع ومستوى التنظيم القيمي فيه.

ومن هنا، يمكن تصنيف هذه الحالة ضمن شكلين من الانتحار:

 

1. الانتحار الأناني:

 

ينتج عن ضعف اندماج الفرد في المجتمع.

الطبيبة لم تجد دعمًا حقيقيًا داخل محيطها المهني، وربما شعرت بالعزلة وسط فضاء يفترض أنه “علاجي”.

 

2. الانتحار الفوضوي (الأنومي):

 

ينشأ من انهيار القيم والضوابط الاجتماعية.

 

في مجتمع يعرف تسارعًا قيميًا واضطرابًا بين التقاليد والحداثة، يشعر الفرد بأن لا معنى لوجوده.

النجاح لا يعود ضمانًا للاستقرار، بل قد يتحول إلى عبء نفسي.

 

ثالثًا: جسد يسقط، ومؤسسات تتفرج

 

هنا تلتقي قراءتي الفنية مع المنظور الدوركايمي:

المشهد يُصوَّر في “فضاء استشفائي”، لكنه لا يحتوي الألم النفسي.

 

السقوط ليس من بناية فقط، بل من سلّم التوقعات الاجتماعية: المرأة، الطبيبة، الشابة…

كل هذه الأدوار تُصبح أقنعة خانقة.

 

المجتمع يكتفي بـ”نعي الخبر”، لكنه لا يتساءل: أين كنا قبل أن تسقط؟

 

رابعًا: هل الانتحار لغة؟

 

في منظور درامي–سوسيولوجي، يمكن اعتبار هذا الفعل لغة يائسة أطلقتها الذات بعد أن خنقها صمت المؤسسات.

 

إنه “مونولوج أخير”، حين لا يجد الفرد منصات للحديث عن هشاشته، فيختار أن يتكلم بـ”السقوط”.

 

خامسًا: الفن كوسيلة مقاومة

 

في غياب منابر إنصات حقيقية، يغدو الفن ضرورة لا ترفًا.

المسرح، المونودراما، العلاج بالفن… كلها أدوات وقائية تمنح الإنسان صوتًا، قبل أن يلجأ للسقوط كلغة يأس.

خاتمة:

 

التحليل السوسيولوجي من خلال إميل دوركايم يُبرز أن هذا النوع من الحوادث ليس نتاج اختلال فردي بقدر ما هو تعبير عن خلل اجتماعي عميق.

ومن خلال عدستي الفنية، أؤمن أن الفن والدراما والمسرح ليست رفاهية، بل أدوات مقاومة وحماية نفسية.

حان الوقت لنمنح الإنسان حقه في التعبير، قبل أن يختار “السقوط” وسيلة للكلام.

الإحالات العلمية الموثوقة:

Durkheim, Émile. Le Suicide: Étude de sociologie. Paris: Félix Alcan, 1897.

الترجمة العربية: دوركايم، إميل. الانتحار: دراسة في علم الاجتماع. ترجمة: محمد الهلالي ومحمد سعدي. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء–بيروت، 2010.

World Health Organization. Mental Health in the Workplace: Information Sheet. Geneva: WHO, 2019.

https://www.who.int/publications

Turner, Bryan S. Medical Power and Social Knowledge. Sage Publications, 2004.

Freidson, Eliot. Profession of Medicine: A Study of the Sociology of Applied Knowledge. University of Chicago Press, 1970.

Abu-Lughod, Lila. Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East. Princeton University Press, 1998.

Moghadam, Valentine M. Modernizing Women: Gender and Social Change in the Middle East. Lynne Rienner Publishers, 2013.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.